تمرّ ذكرى تأسيس حركة حماس هذا العام في أجواء مختلفة جذريًا عمّا اعتاد عليه سكان قطاع غزة خلال العقود الماضية. فبعد أن كانت المناسبة تُحيى بعروض عسكرية ومهرجانات جماهيرية وخطابات تعبئة، تقتصر الفعاليات اليوم على لقاءات محدودة وخطاب داخلي خافت، في مشهد يعكس حجم التحوّل الذي طرأ على واقع الحركة بعد حرب طويلة وتداعيات سياسية وأمنية عميقة.
هذا التحوّل لا يمكن فصله عن نتائج الحرب التي اندلعت عقب السابع من أكتوبر، والتي انتهت بحصيلة إنسانية غير مسبوقة في تاريخ القطاع. فخلال نحو عامين من العمليات العسكرية، قُتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وأصيب مئات الآلاف بجروح متفاوتة، معظمهم من الأطفال والنساء، فيما تعرّضت البنية التحتية المدنية لدمار واسع شمل الأحياء السكنية والمستشفيات وشبكات الكهرباء والمياه، ما جعل غزة تعيش واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخها الحديث.
ويرى مراقبون أن غياب المظاهر العسكرية العلنية في ذكرى التأسيس لا يعود فقط إلى الظروف الأمنية، بل يعكس تراجع قدرة الحركة على تقديم نفسها بوصفها قوة مسيطِرة وواثقة كما في السابق. فالحرب الأخيرة ألحقت أضرارًا جسيمة ببنية حماس التنظيمية والعسكرية، وخلّفت فراغًا قياديًا واضحًا بعد اغتيال عدد من أبرز رموزها، إلى جانب استنزاف كبير في الموارد والقدرات.
ويشير محللون من داخل غزة إلى أن الحركة تمرّ بمرحلة إعادة تموضع قسرية، تحاول خلالها الحفاظ على تماسكها الداخلي أكثر من سعيها لإظهار قوة خارجية. ويقول أحدهم إن “الاستعراضات العسكرية كانت رسالة ثقة وقوة، أما الاكتفاء بخطاب محدود اليوم فيعكس إدراكًا بأن الواقع تغيّر، وأن أدوات الماضي لم تعد صالحة للحظة الراهنة”.
في الشارع الغزّي، تبدو ذكرى التأسيس أقرب إلى استحضار الماضي منها إلى الاحتفاء بالحاضر. فالكثير من السكان يتحدثون عن فجوة متزايدة بين خطاب الحركة وواقعهم اليومي، في ظل دمار شامل، وأزمة معيشية خانقة، ومستقبل سياسي غير واضح. ويقول بعضهم إن الحركة “تحتفي بتاريخها، بينما يعيش الناس تبعات حرب ثقيلة لم تنتهِ آثارها بعد”.
ولا يعني هذا المشهد، بحسب محللين، أن حماس على وشك الزوال، إذ لا تزال تمتلك امتدادات تنظيمية وشبكات دعم داخل فلسطين وخارجها، إلا أن قدرتها على فرض معادلات سياسية أو عسكرية كما في السابق باتت موضع تساؤل واسع. ويؤكد باحثون أن التحدي الحالي لا يتعلق فقط بمسألة الحكم أو السيطرة الإدارية على غزة، بل يمتد إلى جوهر المشروع الذي قامت عليه الحركة، وكيفية إعادة تعريف دورها في مرحلة ما بعد الحرب.
وتزداد هذه التساؤلات في ظل ضغوط دولية وإقليمية تدفع نحو ترتيبات جديدة في القطاع، تشمل تقليص الدور العسكري للحركة، وربط أي مسار لإعادة الإعمار بتغييرات سياسية وأمنية عميقة. كما تواجه حماس تحديات داخلية تتعلق بإدارة الخسائر، وإعادة بناء الثقة الشعبية، والتعامل مع واقع إقليمي لم يعد يتعامل مع غزة كما قبل الحرب.
في هذا السياق، تبدو ذكرى تأسيس الحركة محطة ثقيلة الرمزية؛ فهي تذكير بزمن الصعود والقوة، لكنها في الوقت نفسه تعكس حجم التحوّل الذي فرضته الحرب ونتائجها القاسية. وبينما تحاول حماس تقديم المناسبة بوصفها محطة للصمود والاستمرار، يبقى السؤال مفتوحًا في غزة: هل ما تمرّ به الحركة مرحلة عابرة، أم بداية تحوّل عميق في مسارها ودورها داخل المشهد الفلسطيني؟




